يحاول الكاتب والباحث العراقي فاضل الربيعي في كتاب "قصة حب في أورشليم" أن يستحدث ترجمة جديدة لنص "نشيد الإنشاد" التوراتي، وهو نص شعري على لسان النبي-الملك سليمان بن داود يتغزل فيه بإحدى فتيات "أورشليم" وتدعى "شلمه"، لافتًا النظر إلى غرابة وركاكة الترجمة العربية للتوراة ككل لا سيما "نشيد الإنشاد".
ولكن عندما تعمق في نصوص التوراة وجد أن هناك نوع من التكلف في الترجمة ومحاولة تضليل واضحة، ففي نشيد الإنشاد وفي مواضع عديدة من التوراة تُذكر أماكن لا نعرف لها أي وجود في الجغرافية الحالية لفلسطين ولا حتى في جغرافيتها القديمة ! وأن الترجمة السائدة حاليًا - أو كما يسميها الترجمة الاستشراقية والاستعمارية - للتوراة موجهة إلى دعم الحق التاريخي لليهود في هذه الأرض التي بنيت عليها ممالك اليهود الكبرى.
اكتشف الأستاذ فاضل الربيعي العديد من المفاجآت من خلال قراءته المتفحصة للنص العبري، فإن اسم سليمان – مثلا – واسم معشوقته التي تغنى بها في "نشيد الإنشاد" يرسمان بالرسمه ذاته في النص العبري وهو "شلمه"وتعريب هذا الإسم يكون "سلمى" أو "سلم" أو "سلام"، ويظهر هنا الترابط والتقارب الشديدان بين اللغتين العبرية والعربية، حيث أن العرب يطلقون اسم "سلام" على النبي "سليمان" في بعض الأحيان كقول الأعشى:
ودعا بمُحكمة أمين نسجه من نسج داود أبي سلام
والتطابق العربي – العبري هنا يدعو إلى التأمل بعض الشيء والعودة إلى الشعر العربي الجاهلي كما يقترح المؤلف، بسبب مماهاة النص العبري فإن لفظ "شلمه" يترنح بين ثلاثة معان، أولها سليمان والثاني شلمه الفتاة أو سلمى، ويظهر هذا اللفظ كتعبير عن مكان بعينه ! كما يحدث تمامًا في الشعر العربي، فنجد الكثير من الأحيان مثل هذه المماهاة بين معنى المعشوقة والمكان، وغالبًا ما تكون أسماء المتشبب بهن في الشعر العربي أسماء أماكن وجبال، وبالفعل بعد بحث المؤلف في الشعر العربي وجد هذا الشيء بل ووجد تكرار لفظ "سلمى" كثيرًا، وكما في النص العبري تكون فتاة تارةً وجبلًا تارةً أخرى، فمن هذه "سلمى – شلمه" التي تُغني بها بالعربية ولهجاتها ؟؟
ودعا بمُحكمة أمين نسجه من نسج داود أبي سلام
والتطابق العربي – العبري هنا يدعو إلى التأمل بعض الشيء والعودة إلى الشعر العربي الجاهلي كما يقترح المؤلف، بسبب مماهاة النص العبري فإن لفظ "شلمه" يترنح بين ثلاثة معان، أولها سليمان والثاني شلمه الفتاة أو سلمى، ويظهر هذا اللفظ كتعبير عن مكان بعينه ! كما يحدث تمامًا في الشعر العربي، فنجد الكثير من الأحيان مثل هذه المماهاة بين معنى المعشوقة والمكان، وغالبًا ما تكون أسماء المتشبب بهن في الشعر العربي أسماء أماكن وجبال، وبالفعل بعد بحث المؤلف في الشعر العربي وجد هذا الشيء بل ووجد تكرار لفظ "سلمى" كثيرًا، وكما في النص العبري تكون فتاة تارةً وجبلًا تارةً أخرى، فمن هذه "سلمى – شلمه" التي تُغني بها بالعربية ولهجاتها ؟؟
يرجح المؤلف أن "سلمى" هو اسم لجبل موجود في اليمن، اكتسب اسمه من اسطورة الإلهة "سلمى" إلهة الحب والسلام عند العرب قديمًا، وتقول الأسطورة أن فتاة بارعة الجمال اسمها "سلمى"، ترعرعت في إحدى قبائل اليمن، وقع غرامها شاب اسمه "أجأ"، كما أنها مع الأيام قد عشقته كذلك، وقررا الهرب معًا بمساعدة مربية سلمى واسمها "العوجاء"، وبالفعل هربوا ولكن إخوة سلمى عرفوا بالأمر وانطلقوا يبحثون عنهم، فوجدوهم في واد عرف فيما بعد باسم "وادي سلم" أو "أوري سلم" ( قارن الاسم مع "أورشليم" أو كما في رسم آخر بالتوراة "أورى شلم") وقتلوا العشيقين والمربية، واختلطت دماء الحبيب بحبيبته، رقت قلوب الناس عند سماعهم بهذه القصة وندم إخوة سلمى، فقرروا وكنوع من التكفير عن خطيتهم، أن يطلقوا على الجبال المحيطة أسماء "سلمى" و"أجأ" و"العوجاء" ومن دخل بينهم أي في "وادي سلم" أمن وسلم من كل خطر، فإن هذا المكان بات يحرم القتال فيه تمامًا كما يحرم القتال في الأشهر الحرم.
وذكر الشعراء "سلمى" الجبل على مر العصور، فصاحب المعلقة "زهير" سمي بـ "ابن أبي سلمى" لكثرة ورود اسم "سلمى" في أبياته، فيقول مثلا:
فقفٌ فصارات فأكناف منعج فشرقي سلمى حوضه فأجاوله
ويقول عبدالرحمن بن جهيم الأسدي وفي قوله نجد تكرارًا لاسم سلمى، فهي هنا فتاة تارة والجبل تارة أخرى:
ألمت بنا سلمى طروقًا ودونه قداميس سلمى والكراع فلابها
وعلى غرار ذلك يقول النابغة الجعدي:
أمن آل سلمى الطارق المتأوب ألمّ وبيش دون سلمى وحبحب
يرى الكاتب أن "سلمى" الشعر العربي هي ذاتها "شلمه" في نشيد الإنشاد، وعليه فإنه يعتبر "نشيد الإنشاد" أحد نصوص الشعر العربي الضائع الذي اندثر كونه لم يكتب باللهجة التي حفظت معظم القصائد التي بين أيدينا وهي لهجة "قريش"، إنما كتب بلهجة اشتهر وما زال يشتهر بها بعض أهل اليمن أي "العبرية"، وأن "نشيد الإنشاد" لم يكن على لسان سليمان النبي إنما كان على لسان شاعر عربي مجهول عاش في اليمن في تلك المنطقة المجاورة لجبل "سلمى".
ولكي يدعم هذه النظرية جاء فاضل الربيعي بالعديد من الدلائل الجغرافية والتاريخية واللغوية، أشير إلى البعض منها.
وردت العديد من الأماكن في نشيد الإنشاد على أنها من أراضي فلسطين أو تجاورها مثلا " جبال نموريم وتلال لبنان وأورشليم وصيون أو صهيون" إلا أن هذه الأماكن يصعب بل يستحيل العثور عليها في الأراضي الفلسطينية، ففلسطين لا تعرف جبلا يدعى "سلمى" يقارب "جبال نموريم" و"تلال لبنان" ووادي "صهيون"، والعديد من التضاريس والأماكن الأخرى لن أذكرها اختصارًا، ويحاول النص العربي الذي بين أيدينا – ذو النفحة الاستعمارية – أن يقلب الحقائق بشتى الوسائل، فيلجأ إلى الترجمة التي لا تنسجم مع المعنى ومغايرة عن المعنى الأصلي تمامًا ويتجاهل بعض المصطلحات – المواقع، وبكل جرأة يبدلون موقعًا بآخر بشكل غريب لا يخلو من غباوة، فجاء في النص الأصلي كما هو بالرسم العبري " صئنه – ورئنه – بنوت – صيون – ب – ملك – شلمه" وترجمته السائدة تقول "اخرجن يا بنات أورشليم وانظرن الملك سليمان" !! "وهذه الترجمة مرفوضة كلية من جانبنا للأسباب التالية: أن الشاعر حدد البنات ببنات "صيون – صهيون" وليس أورشليم ( بنوت – صيون ) كما أن الشاعر دعا البنات إلى أن ينظرن (في) الملك ولو كان يريد المَلك لتوجب عليه أن يرسم الاسم بصورة "ها – ملك" الكتاب ص 241. ويستبدل الكاتب الترجمة الركيكة السائدة بترجمة أخرى دقيقة أقرب إلى العقل: "فلتخرجن ولتنظرن يا بنات صيون في مُلك سلمى". وادي "صيّون" أو صهيون موجود في اليمن ومعروف إلى يومنا هذا، وكأن الشاعر أراد أن يفاضل جمال شعاب جبل "سلمى" على شعاب "وادي صهيون" فالشعاب كثيرا ما يطلق عليها اسم "البنات" في الشعر العربي القديم، فإنه يدعو بنات – شعاب صهيون للنظر إلى جمال بنات "سلمى" أو لعله يقصد البنات فعلا فتكون المفاضلة بين بنات صهيون وبنات سلمى.
ومن جملة الأماكن المذكورة في نشيد الإنشاد "لبنان"، حيث تحاول الترجمة السائدة بأن توهم القارئ أن المكان المقصود هو لبنان البلد، وقد ظهر اسم "لبنان" في العديد من المواضع في النص العبري، على سبيل المثال "انطلق إلى جبل المر، وإلى تل البخور كلك جميلة يا خليلتي، ولا عيب فيك، هلمي معي من لبنان أيتها العروس، هلمي معي من لبنان، رأس سنير وحرمون، من مرابض الأسود، من جبال النمور" هذه هي الترجمة الحالية، فهل نجد في فلسطين أو لبنان أماكن تدعى "جبال المر" أو "جبال النمور" والأماكن المذكرة الأخرى ؟؟ الجواب لا، ولكن نجد في اليمن جبالًا تدعى جبال المور ويقول الهمداني* في وصفها "المور جبال عطية (أي لقوم عك) وهي مخلاف. ثم مخلاف عثر، وعثر ساحل جليل وفيه من الأودية "الأمان" ثم بلد حرام من كنان" نلاحظ أيضا وادي "أمان" وبلد "حرام" ولنقارنها بـ "حرمون" في النص الأصلي، وللفائدة يمكن العودة للكتاب، وأما جبل "النمور" فالأولى أن تكون ترجمته "نمارات" كونه ورد في النص العبري بلفظ "نموريم" والـ "يم" تفيد الجمع، والنمارات ومفردها نمار جبل ذكره الهمداني "ونمار وجبال شرعب ووادي نخلة وبلد الكلاع" وقد ورد اسم هذا الجبل بلفظي "نمار" و "نمارات" بالشعر العربي فيقول الأعشى:
قالوا "نمار" فبطن الخال جادهما فالعسجدية فالأبلاء فالرجل
ووردت في قول حزازة الهمداني:
فالنمارات فاللوى من أثال فالعقيقان عليا فالجواء
فعلى مأرب فنجران فالجوف فصنعاء صبة عزلاء
فعلى مأرب فنجران فالجوف فصنعاء صبة عزلاء
وفي قول جرير:
إليك إليك يــــــا جعد بن قيس فلست من أبــناء نــــــــــــــــزار
ولكن من سمارة شر حي إذا نزلوا المضيح من نمار
وتلال "لبنون" وهي بالأحرى جبال أو جبل لبنان وقد ورد أيضا في الشعر العرب، فيقول جرير أيضًا:
ظللت وقد خبرت أن ليس جازعا لربع "بسلمانين" عينك تذرف
وتزعم أن البين لا يشعف الفتى بلى مثل بيني يوم "لبنان" يشعف
ونلاحظ في هذا البيت ورود لفظ "سلمانين" وهو صيغة الجمع للفظ "سلمى" كعادة العرب أن يلفظوا الأماكن بصيغة الجمع والمفرد مثلما حصل مع "النمار والنمارات".
وتزعم أن البين لا يشعف الفتى بلى مثل بيني يوم "لبنان" يشعف
ونلاحظ في هذا البيت ورود لفظ "سلمانين" وهو صيغة الجمع للفظ "سلمى" كعادة العرب أن يلفظوا الأماكن بصيغة الجمع والمفرد مثلما حصل مع "النمار والنمارات".
ويذكره النابغة الذبياني في بيت له قائلا:
حتى إذا غدا نصل السيف منصلتا يقرو الأماعز من لبنان والأكما
كما أنه ورد عند الهمداني في جملة من الجبال المشهورة "إن الجبال المشهورة المعروفة عند العرب سلمى وأبان وقدس ويذبل والمجيمر ولبنان في أطراف همدان" ولا يخفى أن همدان قبيلة من سكان اليمن القديم بلا أدنى شك.
والعجيب أن في هذه المنطقة كان يسكن قوم يعرفون بال "الفلس" أو "الفلست" باللهجة اليمنية القديمة و"فلشت" بالعبرية وقلنا أن للجمع بالعبرية تضاف يم فيصبح الفلستيين بالعبرية هم "فلشتيم" أو هي مذكورة في التوراة "ها فلشتيم" وترجمتها الفلسطينيين !! وقوم الفلس/الفلست هؤلاء قوم وثنيين كانوا يأكلون السحت وقد دارت حروب طاحنة بينها وبين القبائل العربية الموحدة ويرجح الكاتب أنها تقاتلت مع قبائل بني اسرائيل في اليمن.
والمفاجأة الأكبر هي أن كلمة "أورشليم" أو "أورى شلم" كما هو رسمها في التوراة.. من أحد أودية جبل سلمى!! ويعرف ب "أوري سلم" أو "وادي سلم" أو "وادي سلام" ويقول الأعشى:وقد طفت للمآل آفاقه عمان فحمص فأوري سلم
أقول: مؤسف أن معظم مصادرنا عن قوم "بني إسرائيل" معظمها إسرائيلية، لا نملك مصادر أخرى، ولكي نتأكد من صحة أقوالهم التي جاءت في التوراة أو من صحة أقوالهم التي تبنيناها، يمكننا العودة للقرآن الكريم ولكتب التفسير وكتب الحديث، "وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا" ونجد أن القرية التي دخلوها بني اسرائيل بعد خروجهم من مصر مع نبي الله موسى – على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام – هي بيت المقدس كما في الرواية التوراتية أو أنها قرية العمالقة كما يرى بعض المفسرين، والعمالقة ورد أنهم من بقية عاد قوم هود، كما أن طالوت أو شاول قاتل هؤلاء العمالقة وهم من قوم عاد، أين كان يسكن قوم عاد ؟؟ وطالوت أليس من ولد "بنيامين"؟؟ وقد اعترضوا بني اسرائيل على تنصيبه ملكًا لأنه من سبط "بنيامين" وليس من نسل "لاوي" سبط الأنبياء ولا "يهوذا" سبط الملوك وقيل سبط "يوسف". ألا يستدعي كونه من ولد "بنيامين" أن نتوقف ؟؟ ألم يسمى اليمن عند العرب "بن يامن" ؟؟ فقد قال امرؤ القيس:
أوِ المُكْرَاعاتِ من نَخيلِ بنِ يامِنٍ دوينَ الصفا اللائي يلينَ المشقرا
ولنربط حروب بني اسرائيل ضد العمالقة وغيرهم، مع حروب القبائل التوحيدية ضد قوم "الفلس" الموجودون باليمن.
ولنربط حروب بني اسرائيل ضد العمالقة وغيرهم، مع حروب القبائل التوحيدية ضد قوم "الفلس" الموجودون باليمن.
إضافة لهذا كله، لماذا يتجاهل الغرب وبصورة غريبة جدًا تاريخ اليمن وآثار اليمن، وتراهم في كل مكان علماء وعامة مهووسون بالتاريخ والآثار، ولكن لا تجد لهم أثرًا في اليمن السعيد إلا نادرًا، فهل حان الوقت لكي نعود للنصوص التاريخية لنعيد كتابة التاريخ بأيدينا ؟
twitter @Haj_Hussain